الفلسفة السنة اولى باكلوريا
العلم والـتقنيـة
تقديم:
ترتكز حياة الإنسان المعاصر على الآلات والمعدات التقنية ، تلك «الكائنات المألوفة الصامتة والخفية» ، التي بفرط اعتماد الإنسان عليها واستخدامه لها باستمرار أصبحت تشكل جزءا من وجوده حتى أن التفكير في الظاهرة التقنية ودلالاتها وأبعادها ومختلف آثارها قد تعطل وغاب خلف مظاهرها المتمثلة في جيش من الآلات والمعدات التقنية المحيطة بنا.فإذا كان «الإنسان كائنا صانعا»، فهل صنع الأدوات والآلات التقنية من خصائصه أم انه عبارة عن تحول جوهري في وجوده ؟ ثم ألا يمكن القول بأن وثيرة حركة الإنتاج التقني واستهلاكه قد خرجت من طوع الإنسان بل وأصبحت هي التي تتحكم فيه؟ ألا يمكن أن يكون لهذا الانقلاب في علاقة الإنسان بالتقنية تأثير وانعكاس على مختلف علاقاته: بنفسه وبالآخرين وبالطبيعة ؟ وقبل هذا وذاك ما هي التقنية ذاتها ؟
يعرف معجم لالاند التقنية بأنها « مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا ، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة » التقنية هي: أولا، عمليات وإجراءات محددة بدقة وهادفة إلى تحقيق غرض معين وجدت من أجله، وهي ثانيا ، قابلة للتعليم والتعلم والتطوير والتداول والانتشار داخل وسط ما ومن هنا طابعها الاجتماعي. وهي أخيرا ، تحقيق لأهداف عملية نفعية معينة ، بمعنى أن التقنية ليست ترفا بل هي سد لحاجة أو نقص ما لدى الإنسان ، ومن هنا نفهم القول المأثور «الحاجة أم الاختراع».
فإذا كان الإنسان قد حول الطبيعة بالتقنية إلى تقنية أي حول الطبيعة إلى منتوجات وآلات تقنية استعان بها على تحويل الطبيعة لإنتاج ما لا تستطيع أن توفره من ذاتها فإنه قد تحول هو نفسه إلى كائن ثقافي يعيش وسط الآلات وبها ومعها ولربما قد يعيش لها…
وفي إطار تحديد التقنية لا نرى بدا من التمييز بين الأداة Instrument والآلة Appareil: فالأداة منتوج المجتمعات الحرفية ، وهي عبارة عن امتداد لجسم الإنسان (كالفأس والمطرقة والمنجل…) إذ أنها تتيح ليد الإنسان استعمالات وإمكانيات عدة ، ولكن تشغيل الأداة يبقى موقوفا على طاقة جسم الإنسان . أما الآلة فهي منتوج المجتمعات الصناعية ، وهي حتى وإن كانت امتدادا لجسم الإنسان-إذ أنها تسد النقص والعجز الذي يعاني منه- فإنها تتمتع بنشاط شبه مستقل عن الجسم إذ لها حركة ذاتية ناتجة عن تحويلها للطاقة كقوة طبيعية (كالآلات البخارية مثلا).
وقد أبرز معظم الفلاسفة والأنتربولوجيين أن البعد التقني سابق أو على الأقل ملازم للبعد المعرفي في الإنسان، وأن الإنسان نفسه كائن صانع قبل أن يكون كائنا عارفا، بمعنى أن المهارات العملية للإنسان سابقة بل متفوقة على مهاراته النظرية أو المعرفية.
وإذا كانت التقنية قد تطورت عبر تاريخ الإنسانية تطورا بطيئا عبر عشرات القرون: الحجر، الحديد، البروز، فإنها أخذت تتحول نوعيا من التقنية اليدوية إلى التقنية الممكنة مع ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا حيث تلاحقت الثورات التقنية تباعا: الثورة البخارية، المحرك الانفجاري، اكتشاف الكهرباء ونتائجه، الثورة الإلكترونية، المعلوميات، الثورة الجينية وهي تحولات تحكمها معايير التسارع والميل إلى الاستقلال الذاتي والكونية والتطور العلمي بعيدا عن أي منظور غائي، وذلك في إطار تصور جديد للعلم ذاته الذي لم يعد كما كان في العصور القديمة معرفة نظرية شاملة متقابلة مع التقنيات كصناعات وممارسات علمية، بل في منظور أن العلم أصبح مرتبطا عضويا بالتقنية. إلا أن التطور الهائل للتقنية الحديثة وكشوفاتها وقدراتها التي جعلت الإنسان يحقق ما كان يحلم به عبر السحر والميتولوجيا في القديم سواء في استكشاف الأبعاد اللانهائية للكون الكبير وفي الأبعاد اللانهائية للأكوان الصغرى في المادة الجامدة والمادة الحية أو في السعي إلى التحكم في بعض مظاهر الحياة عبر التلقيح الاصطناعي أو الاستنساخ وغيره كل ذلك بدأ يطرح تساؤلات للمقارنة بين إيجابيات التقنية وحدود سلبياتها، وحول كيفية ضبط تطورها قانونيا وأخلاقيا حتى لا تتجاوز حدود المعقول الأخلاقي.
· كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟ ولماذا تعتبر خاصية إنسانية؟
· ما العلاقة بين التقنية والعلم؟ ما هي الآثار الناتجة عن هذه العلاقة؟ هل تعمل التقنية خلف كشوفاتها الإيجابية وتحولاتها النوعية آثارا سلبية تهدد الإنسان والطبيعة؟
· ما نتائج تطور التقنية على وجود الإنسان؟ لماذا تحولت إلى قوة مسيطرة على مصير العالم؟
التقنية خاصية إنسانية
أطروحة أوسولد شبنغلر
في نظر شبنغلر، هناك بعدان اثنان للحياة الإنسانية: بعد حيواني (حيوي، إحيائي، بيولوجي)، وبعد إنساني (حياتي، تأملي، تخطيطي). والتقنية ليست وسيلة هدفها صناعة الأدوات والآلات، بل هي خاصية تتجاوز البعد الإنساني لحياة الإنسان وتدخل في قلب البعد الحيواني لحياة الإنسان. وهذه الخاصية المسماة "تقنية" هي نمط وجود قديم يرجع في أصله إلى أزمنة غابرة من الصعب تحديدها من الناحية التاريخية. ويقوم هذا النمط الوجودي للإنسان على إستراتيجية وخطة، تتجاوز الحفاظ على الذات والاستمرارية، للصراع مع الطبيعة من خلال الخلق والإبداع والتغيير والابتكار والسيطرة... التقنية حسب شبنغلر هي "الشكل الداخلي الذي يعتبر الصراع مظهره الخارجي".
وعلى هذا الأساس، تفهم التقنية على أنها العلة التي دفعت الإنسان إلى الابتكار والاختراع والإبداع، ولا تفهم على أنها المنتج في حد ذاته. يقول شبنغلر: "إن ما يهم ليس هو شكل الأشياء، ولا كيف نصفها، ولكن ما نفعله بها، وكيف نستخدمها. فما يهم، ليس السلاح بل الحرب...التقنية هي مسألة سلوك مهتم وهادف، وليست أبدا أشياء وموضوعات، وهذا بالضبط ما يتم نسيانه... إن كل آلة ... تدين بوجودها إلى التأملات والاستباقات الخاصة التي تحرك هذه السيرورة".
من الواضح أن التقنية عند شبنغلر ليست أجهزة أو آلات أو مخترعات، بل هي تأملات واستبقات وأفكار دفعت الإنسان إلى أن يخترع و يبتكر ويبدع. الأصل في التقنية هو التأمل والتفكير وليس النتيجة. فالنتيجة متغيرة متبدلة، أما الفكرة الأم فهي ثابتة مستقرة وهي الفكرة التقنية. فعلى سبيل المثال الهاتف المتنقل بأشكاله وأنواعه وطرازاته المتعددة والمتغيرة ليس "تقنية" بل التقنية هي فكرة الاتصال عن بعد. وهذه تدخل في صميم حياة الانسان منذ الأزمنة الغابرة دون أن نعرف منشأها التاريخي. بهذا المعنى عبارة "نمط وجود واستراتيجية استباقية للحياة" عند شبنغلر.
أطروحة هايدغر
انتقد هايدغر اتكاء المجتمعات الحديثة على خطاب مضمر قوامه إعطاء مكانة مركزية العلم والتكنولوجيا. واعتبر ان ذلك الخطاب لا يستطيع حل معضلات الحضارة الانسانية، ولا يصلح كأساس للفكر الانساني، لان جوهر التقنية لا يكمن في التقنية، بل في "المحمولات المضمرة" فيها. وذهب إلى القول إنّ جوهر ما يُسمى بالخطاب العلمي لا ينبع من العلم، ولا يستطيع ذلك، بل يعبر عن موقف ميتافيزيقي للعقل الانساني يقدم العلم بصفته وعداً بسيطرة الانسان على العالم.
حاول هايدغر أن يضبط التقنية وفباغثها في لغز ماهيتها التي ما تزال تغلفها الأسرار. واعتبر أن هذا التمثل التقدمي التصاعدي لتاريخ العلوم هو مجرد "حكاية غير محبوكة". فليس العلم الحديث في تقدم بالنسبة للمعرفة القديمة بقدر ما يضع محلها منظورا يختلف اختلافا جذريا بفضل "المشروع الرياضي للطبيعة" الذي نادى به ديكارت على غرار غاليليو، والذي يرى أن "الطبيعة تعمل رياضيا". يقول هايدغر في الدروب "حتى كون الإنسان غدا ذاتا وكون العالم غدا موضوعا ما هو إلا نتيجة لماهية التقنية وسيادة مملكتها وليس العكس".
ميز هايدغر بين التقنية قديما وحديثا. فالطائرة الورقية مثلها مثل الطاحونة المائية، تبقيان خاضعتين للطبيعة : إذا لم يكن ثمة هواء أو ماء، لن تعملا. أما الصاروخ أو المحطة النووية فيعملان في كافة الأوقات، يقيمان مبدأهما خارجا عن الاحتمالات، ولا يتعلقان إلا بالحساب والقرار البشري. إن التقنية الحديثة قادرة على استخدام الطبيعة ضد الطبيعة، والإنسان ضد الإنسان. يقول "هايدغر" : "التقنية تأمر الطبيعة ، أي أنها تخضعها للعقل الذي يقتضي من كافة الأشياء أن تبين تعليلها، أن تصوبه". إنها إذن نوع من تحدي الطبيعة، وبالتالي ليس المقصود فقط إجراء عمليات في الطبيعة باستخدام الطبيعة " فما دمنا نتمثل التقنية كأداة سنظل مشدودين بالرغبة في السيطرة عليها. إننا نبقى خارج جوهر التقنية".
إن ماهية التقنية متعلقة مباشرة بالإنسان ونزوعه إلى الفهم. فليس ما يلتمسه الإنسان في الطبيعة هو مساعدة مادية وحسب، بل مساعدة ميتافيزيقية: إننا نطلب من الطبيعة أن تسلمنا حقيقتها التي بدونها يظل وجودنا فقيرا وخاضعا."
فالتقنية هي بالتالي شيء أخر مختلف عن "العلوم الطبيعية التطبيقية ". إنها تظهر غاية أساسية هي أن تقود إلى الحقيقة، الكائن المختبئ في الطبيعة. إنها طلب موجه إلى الطبيعة كي تسلم أسرارها وقواها العميقة. "إن التقنية تكشف ما لا يحصل من تلقاء ذاته وليس أمامنا الأمر الذي قد يأخذ تارة هذا المظهر أو هذه الصيغة، وطورا غيرهما".
هكذا نفهم ما يميز التقنية الحديثة عن القديمة: لم تكن العلوم الدقيقة متوافرة لدى التقنية القديمة، والكشف الذي كانت تقوم به كان محدودا واتفاقيا ولم يكن يتبع منهج التجميع المتواصل الذي يميز ما نسميه التقدم التقني. لكن التماس الطبيعة الذي تقوم به التقنية الحديثة منظم وملح."إن التطور الذي يسود التقنية الحديثة هو تحريض يخطر الطبيعة لتسلم طاقة يمكن استخراجها وتجميعها". هذا الطلب الموجه بإلحاح إلى الطبيعة لم يعد يتعلق بحاجة معينة، إنه يزج الأرض بأكملها والبشرية بأكملها في مسار كشف وترشيد ومردود يكون شبكة متضامنة. فالتقنية تبدو لـ"هايدغر" كشكل من أشكال الولوج الى الحقيقة والى السيطرة وليست ككيان خارجي، مستقل ومهدد وغالبا ما يبطل أو يلغى. التقنية التي تدرك جيدا تجرنا "في ندائها المحرر".
العــلـم والـتـقـنـيـة
يشير العلم إلى مجموع المعرف النظرية المتصلة بحقل معرفي معين: الرياضيات، الفزياء، الفلك...
وتحيل التقنية، في الاستعمال المتداول، على التطبيقات العملية للمعارف العلمية: الاستنساخ، المفاعلات النووية، الطاقة الحرارية...
وتمثل التكنولوجيا علم تطبيق المعرفة، أو العلم التطبيقي، أو مجموع المعارف المقرونة بالأساليب العلمية التطبيقية.
كانت الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية والأرسطية تقيم تقابلا بين العلم كمعرفة نظرية شاملة، وبين التقنية كصنعة وممارسة عملية، وضرورة وأشياء عارضة، حسية وطارئة. لكن ابتداء من عصر النهضة الأوربية الحديثة خفت حدة التقابل بينهم، إذ عد العلم معرفة بعلل الظواهر وقوانين حدوثها، وأضحت التقنية هي مجموعة من العمليات والإجراءات الرامية إلى التحكم في نتائج العلم واستخدامها وتطبيقها، إلا أن هذا لم يمنع من معرفة نظرية خالصة في حين أن التقنية هي معرفة تطبيقية. لكن هناك اتجاه فلسفي آخر يرى أن العلم نفسه تقني في جوهره وتصوره فهو استجابة للتقنية وامتثال لها.
لقد ربطت الثورات العلمية الحديثة بين العلم والتقنية ربطا وثيقا لم يعد معه بالإمكان التمييز بين العلم والتقنية. لم يعد التطور العلمي كامل الاستقلال بل استطاعت التقنيات إحداث تطورات علمية معينة، وليس من المستحيل الاعتقاد بأن بعض أشكال الرياضيات أو الفيزياء الحديثة كانت نتيجة اهتمامات تقنية. يرى عبد السلام بنعبد العالي مثلا أن الفيزياء الحديثة ليست فيزياء تجريبية يتم تطبيقها على الطبيعة قصد الاستحواذ عليها والسيطرة انطلاقا من تطبيقاتها ولكن الفيزياء نظرية خالصة تجبر الطبيعة على إظهار تلك القوى القابلة للحساب الرياضي والخاضعة للتجريب، فالآلة ليست مجرد وسيلة يعتمدها الإنسان في استغلاله للطبيعة بل تحمل في نظامها معرفة علمية متجددة أعطت لمفهوم الآلة معنى جديدا يتجلى في "المعرفة التي تمتلكها الآلة في ذاتها"، وعن طريق الممارسة اتخذت شكل الآلة في التطبيق الخارجي للمعرفة الرياضية. إنها المعرفة التي أصبح فيها الوجود ذا طبيعة رياضية و مكنت الإنسان من السيطرة على الطبيعة وامتلاكها، فالإنسان سيد الطبيعة مالكا لها.
أما سيرج موسكوفيتشي فيعترف أنه: "لم يعد بمقدورنا التفكير في أنه بإمكان المهندس أن يحل مختلف المشاكل... إذا لم يكن متمرسا باستخدام الآلات والتقنيات الميكانيكية". فالهندسة، التي كانت تقنية وأصبحت علما تفترض بالمهندس أن يكون ملما بمبادئ الجبر(الحساب)، وبمبادئ الهندسة، ومعرفة الأوزان والأحجام... وكل هذا يستلزم حضور الرياضيات والحواسيب لأجل إنجاز التصاميم والخطاطات وحساب الأبعاد... أي تضافر العلم النظري والتقنية التطبيقية.
إن العلوم والتقنيات، بعد الثورات الأساسية في القرن 20م، قد هدمت الحواجز بينها وأصبحت العلاقة بين العلوم علاقة ديناميكية إذ انتهى عهد التجزيء والاختزال والتخصصات المنغلقة، وانطلق عهد التضافر، ويصعب اليوم أن يكون العالم عالما من غير أن تكون لديه معرفة عامة ودنيا بالتقنيات والعلوم الأساسية. فعلى سبيل المثال أدى الكم الهائل للجينات المكتشفة في علم البيولوجيا، خلال مرحلة معينة، بالعلماء إلى اليئس من إمكانية حل شفرة ملايين الجينات. هذه الصعوبة التي واجهت البيولوجيين، دفعت بعلماء الحاسوب إلى تطوير قدرات الحواسيب لجعلها قادرة على ترتيب الجينات بطريقة ميكانيكية وسريعة وفعالة.
وبهذا تحولت التكنولوجيا إلى ظاهـرة اجتماعية متكاملة ومعقدة محورها الإنسان. فسيرورة التكنولوجيا ترتبط بعوامل مجتمعية متداخلة ومركبة، كما وضح ذلك إدغار موران. فالعلم يتحكم في المادة بواسطة التجريب. والتجريب يستلزم تقنيات. والتقنيات تتسارع في التقدم والتغير اللامتناهي... وهكذا تحتل المؤسسات العلمية مكانة مهمة داخل المجتمعات التي تدعمها بالأموال وتوجهها وتراقبها عن طريق قوانين الإقتصاد. يقول موران: "... التقنيات التي ينتجها العلم تحول المجتمع، ولكن المجتمع التكنولوجي يحول العلم نفسه. وتلعب المصالح الاقتصادية الرأسمالية ومصالح الدولة دورها الفعال في هذه السيرورة".
نتائج تطور التقنية
من الملاحظ أن للتقنية تأثيرا كبيرا ليس فقط على الواقع المادي للإنسان بل حتى على ذاته وطريقة تفكيره، حيث يقول عالم الاجتماع الفرنسي جورج فريدمان "إن أسس نظرتنا إلى العالم أصابها اليوم انقلاب وتحول، لأن التقنيات الجديدة بدلت إدراكنا للأشياء".
وبالرجوع إلى كتابات فلاسفة القرن السابع عشر سنلاحظ أنها تغص بخطابات تحتفي بالآلة والتقنية، فديكارت في كتابه "مقال في المنهج" يرى أن المعرفة التقنية تمكننا من جعل الكائن الإنساني "سيدا ومالكا للطبيعة".
وفرنسيس بيكون في "الأورغانون الجديد" يرى أن الإنصات إلى الطبيعة وملاحظة ظواهرها وتأسيس المعرفة العلمية بنهجها الاستقرائي، يهدف إلى الانتصار على الطبيعة! حيث ينتهي بيكون إلى قول مشابه لما عبر عنه ديكارت، ويرى هو أيضا في التقنية وسيلة لتسييد الإنسان على الطبيعة وسيطرته عليها.
لكن بعد هذا الاطمئنان إلى التقنية بوصفها أداة وسلاحا يخدم الإنسان، تحولت نظرة الفكر والفلسفة الغربية وانقلبت موازين التقويم من التقريظ البالغ إلى الهجاء الشديد.فالحلم الديكارتي القاصد إلى جعل الإنسان سيدا على الطبيعة، سينتقده بشدة الفيلسوف الألماني هيدغر الذي سيعلي من شأن باسكال على ديكارت، أي الإعلاء من شأن القلب والعاطفة على خطاب العقلانية الديكارتية المتوحشة التي تنظر إلى الطبيعة من معيار رياضي فتحولها إلى موضوع للسيطرة والاحتواء. وضد هذه الرؤية الديكارتية ستنطلق رؤى جديدة في الفلسفة الغربية تعيد التفكير في الظاهرة التقنية بمختلف تجلياتها. ويمكن القول إذا كان منطلق الديكارتية هو تسييد الإنسان على الطبيعة من خلال إبداع الآلة والتقنية، فإن المفارقة التي تبدت خلال صيرورة تطور الظاهرة التقنية، هي أن الإنسان سقط تحت سيطرة أخرى أخطر من سيطرة الطبيعة عليه، إنها سيطرة الآلة ذاتها!
وفي هذا السياق، انتقد كثير من الفلاسفة المسار الحديث للتقنية:
1- يرى ماركس أن كل الأشياء تبدو جلية وواضحة من خلال نقيضها، وهكذا فإذا كانت التقنية تحمل ي ذاتها إيجابيات وتبهر الإنسان وتملك قدرة إيجابية في اختصار الوقت وتحد من ساعات العمل عبر الآلات المختلفة فإنها في الوقت نفسه تسبب الجوع والإنهاك المفرط، لتتحول الثورة التقنية إلى مصدر البؤس، فأصبح كل انتظار تقني ثمنه انحطاط معنوي.ومن خلال مفهوم الاستلاب فإن ماركس يؤكد أنه بقدر ما فتئ الإنسان يصبح سيدا وممتلكا للطبيعة بقدر ما تمارس عليه الآلات والقدرات التي يمتلكها استلابا ويتحول إلى عبد لهاته الآلات التي يمتلكها. إن التقنية حسب ماركس تستدعي استغلالها والتحكم فيها من طرف أناس جدد غايتهم تحويلها إلى وسيلة لنفع المجتمع لا لممارسة الاستلاب والاضطهاد.
2- يؤكد هيدغر أن الإنسان لم يعد يسيطر على الآلة، بل أصبحت الآلة مهيمنة ومسيطرة عليه. وبالتالي فالحلم الديكارتي بجعل الإنسان سيدا عبر التقنية استحال إلى النقيض، أي حوله إلى عبد. ولذا من حق التأمل الفلسفي المعاصر أن ينظر إلى التقنية بوصفها خطرا وفخا مخيفا صنعه الإنسان بنفسه ثم سقط فيه. والمفارقة أن الإنسان الذي يعرف آليات وطرق صنع هذا الفخ لا يعرف طرق الخروج منه، إذ يستحيل عليه إرجاع الزمن إلى الوراء، ومحو المعرفة التقنية من العقل والواقع البشريين، بل أكثر من ذلك يبدو أن التقنية تتحرك وتتطور خارج إرادة الإنسان وسيطرته، فهي ليست مجرد أداة يستخدمها كيفما يريد لأنها من حيث الماهية ليست مجرد أداة، بل هي نسق من المعرفة ومنظومة من الآليات التي تستبطن عوامل تطورها داخلها على نحو مستقل عن إرادة الإنسان. ولذا عندما يبدع الكائن الإنساني تقنيات معينة، فإنه يخضع عندئذ للسائد التقني. فكل تقنية تولد ما يليها وتستخدم الإنسان لتقبل ذلك المولود الجديد. ومن ثم فالأداة هنا هو الإنسان نفسه الذي أصبح خاضعا "لإرادة" التقنية. ولقد تجلى هذا التطور خلال النصف الثاني من القرن 20م خاصة في سياق التنافس المحموم الذي حكم صراع الاتحاد السوفياتي بالولايات المتحدة أثناء عقود ما سمي "بالحرب الباردة"، حيث لاحظ الجانبان في النهاية أنهما سارا في طريق ملغوم لهما معا وللبشرية بأكملها. ذلك أن أفق التطور أخذ يرسل إشارات محذرة بسبب استمرارهما في البحث عن مزيد من تقنيات الدمار الشامل، إذ وصلا إلى يقين بأن أي حرب بينهما يستخدم فيها هذا النوع من الأسلحة لن تنتهي بمنتصر ومهزوم، بل الهزيمة والدمار سيلحقان الجانبين معا، بل سيلحق الكرة الأرضية بأكملها، ولذا ارتفعت بإلحاح الدعوة إلى وقف التسلح النووي والحد من أسلحة الدمار الشامل.
3- ويشبه آينشتاين التقدم التقني في فوضويته ولامسؤوليته الأخلاقية تشبيها جميلا ودالا حيث يقول "إن سلاح التقدم التقني يبدو مثل فأس وضعناه في يد مريض نفسي"، أي أنه في يد غير مسؤولة يمكن أن تخبط به في كل اتجاه، حتى ضد نفسها. فقد أخذت تلتمع الآن أمام البشرية تساؤلات رهيبة: كيف سيكون مستقبل الإنسانية إذا استمرت الأبحاث العلمية في تطوير تقنية الدمار؟ ألا يمكن أن يبسط هذا التطور إمكانات إبداع الدمار وتقنية القتل -مثلما هو دائما منطق التطور العلمي- حيث ينساق نحو تسهيل ما هو صعب وتبسيط إمكانيات إنجازه؟ ألا يمكن أن تكون القنبلة النووية غدا في إمكان عالم فيزياء أن يصنعها في مختبره الشخصي؟ ومن ثم يكون بإمكانه في لحظة جنون أو انفعال أو غضب أن يضع نهاية مدينة بأكملها أو دولة أو قارة، أو حتى تهديد كوكب الأرض كله؟ ووقتئذ هل سيكون ثمة معنى لهذه الرقابة الدولية على الدول المستضعفة كي لا تمتلك السلاح النووي أو وقف تطويره؟ وإذا كان من الصعب مراقبة الدول فكيف يمكن مراقبة ملايين الأفراد داخل مختبراتهم؟ وهذا ما دفع بعض الفلاسفة والعلماء إلى المناداة بتوقيف البحث العلمي أو على الأقل التحكم فيه!!
4- انتقد ميشيل سير المسلك الذي سار عليه العقل الغربي وذلك باتخاذه التقنية كوسيلة للتحكم في الطبيعة، وهذا الأسلوب أدى بدوره إلى تحكم التقنية نفسها في الإنسان والطبيعة معا، فتحولت من مجرد أداة لتحكم الإنسان في الطبيعية إلى عنصر يهدد كيانهما ووجودهما معا. وخطورة هذا التحكم أنه ذو بعد كوني وعالمي وشامل. فلا خيار أمامنا إلا إعادة النظر في علاقتنا بالأشياء التي أصبحت تسودها علاقة التملك والتحكم عن طريق إيجاد السبل الكفيلة للخروج من هذا الإشكال العويص. والسبيل إلى ذلك هو تحكم جديد بديل عن التحكم الحالي المستمد أصوله من الديكارتية الحديثة.
5- في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" الصادر عام 1964، يحذر ماركوز من خطر التقنية التي تسير باتجاه إخضاع الإنسان والسيطرة عليه. توسع التقنية أسباب الراحة أمام الحياة، كما تسرِّع من إنتاجية العمل وتحسنه. تتحدى التقنية الإنسان، وتبرهن استحالة أن يعيش مستقلاً أو منفرداً أو معزولاً عنها. تصير التقنية ضرورة من ضروراتها. لا يستغني الإنسان عن العيش بدونها. لذلك فهي تسيطر عليه وتخضعه لها. وهو ما يسميه ماركوز بالإخضاع المكثف. إنه الخضوع للآلة ولأسياد الآلة المتحكمين بها. في هذا الـ(لا استغناء)، تغيب حرية الفرد ويصير الخضوع واللاحرية أمراً مشرعاً. يقول ماركوز "ما أحاول أن استخلصه هو أن العلم قد رسم صورة العالم. وفيه بقيت السيطره على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الانسان". لقد نجحت التقنية في أن تصنع إنسانا على مقاسها الخاص، كما يظن ماركوز، وأفقدته أن تكون له ميزات خاصة به. فجعلت منه إنساناً مقلدا، مستهلكا، متماهيا معها.
6- يرى موسى الخلف، من زاوية تخصصه في الهندسة الوراثية، التي شهدت منذ فترة قصيرة تطورا هائلا، جعلنا نطرح سؤالا حول مدى انعكاسها على المستوى الأخلاقي للفرد، وعن نتائجها السلبية على الإنسان والطبيعة معا،- أنه رغم الطابع الإيجابي لهذا التقدم التقني على مستوى الهندسة الوراثية، إلا أن لها طابع سلبي يتمثل بالأساس في كونها وسيلة في يد بعض الأشخاص أو الشركات أو الدول للتحكم لتحقيق الربح ال