أنور نجم الدين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] لا يمكن فهم التَّناقض بين منهج ماركس التَّجريبي ومنهج هيغل العقلاني، دون المقارنة بين المنهج التَّجريبي الإنجليزي الذي ينطلق منه ماركس في أبحاثه الاقتصادية - التَّاريخية، والمنهج العقلاني الألماني الذي ينتقده ماركس من نفس وجهة نظر الاقتصادية - التَّاريخية، فالأول - أي الطَّريقة الواقعية الإنجليزية - هو جهود للتَّحقق من التَّاريخ بصورة تجريبية، أمَّا الثَّاني - أي الطَّريقة الفلسفية الألمانية - فليس سوى محاولة للتَّخلص من التَّاريخ الواقعي، أمَّا الأسباب المادية التَّاريخية لهذا التَّناقض، فتعود في الأساس إلى الفارق التَّاريخي بين تطور البرجوازية الإنجليزية، مقارنة بتخلف البرجوازية الألمانية، التي يسميها ماركس البرجوازية الصَّغيرة، فالتَّطور الصِّناعي، هو ميدان أبحاث ماركس التَّجريبية.
يقول ماركس: "إنَّ ما يكون عند الشُّعوب المتقدمة، لهو تعبير عن صراع عملي مع الوضع السِّياسي العصري، وهو وضع لم يتوفر بعد في ألمانيا"، أو "بذرة الحياة الواقعية عند الشَّعب الألماني لم تفرّخ حتى الآن إلاَّ في دماغه"، "إنِّ الكفاح ضدَّ الوضع السِّياسي الحاضر في ألمانيا، هو الصِّراع ضدَّ ماضي الشُّعوب العصرية"، "إنَّ العلاقات بين الصِّناعة، وبصورة عامة عالم الثَّروة، وبين السِّياسة، هي معضلة أساسية من معضلات العصر الحديث، فبأي شكل أخذت هذه المعضلة تشغل بال الألمان؟"، "وها نحن أولاء في ألمانيا في طريقنا لأنْ نبدأ من هنا، من النُّقطة التي شرعت فرنسا وإنجلترا تتجاوزها - كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل".
فقد بلغ الألمان في عام (1840م) تقريباً، المستوى الاقتصادي الذي وصل إليه الفرنسيون، قبل أكثر من نصف قرن من هذا التَّاريخ، حسب ماركس، ففي (نقد فلسفة الحق عند هيغل) و(الأيديولوجية الألمانية) و(رأس المال) يكرر ماركس نفس موضوعه عن الاختلاف التَّاريخي بين الاقتصاد الإنجليزي، والفرنسي، والاقتصاد الألماني، وهو يقول:
"وأخيراً فإنَّ الضَّغط المتعاظم أبداً للمزاحمة الأجنبية والتِّجارة العالمية، الذي كانت إمكانية التَّهرب منه تتضاءل أكثر فأكثر بالنِّسبة إلى ألمانيا، قد ألزم المصالح المحلية المبعثرة للألمان بالاتحاد في نوع ما من التَّناغم، وجعل البرجوازيين الألمان، وعلى الأخص منذ عام (1840م) يفكرون في الحفاظ على هذه المصلحة المشتركة، وأصبح موقفهم قومياً وليبرالياً، وأخذوا يطالبون بتعريفات الحماية والدَّساتير، وهكذا فقد بلغوا في الوقت الحاضر، على وجه التَّقريب، المرحلة التي وصلت إليها البرجوازية الفرنسية في عام (1789م) – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
فبالمقارنة مع الإنجليز والفرنسيين، لم يتقدم الإنتاج الرَّأسمالي في ألمانيا، وشروط الصِّراع بين الطَّبقات الحديثة لمجتمع كهذا، أي البرجوازية والبروليتاريا، إلاَّ في وقت متأخر من التَّاريخ، وليس الإنجليز فحسب، بل وحتى الفرنسيون أيضاً، كانوا متقدمين في هذا الصِّراع، بالمقارنة مع الألمان بنصف قرن أو أكثر، فبعد أكثر من (150) سنة على الأقل، من تاريخ الصِّراع الحديث بين الطَّبقات الحديثة في بريطانيا و(50) سنة من تاريخ هذا الصِّراع في فرنسا، انخرطت البرجوازية الألمانية التي يسميها ماركس البرجوازية الصَّغيرة، بالمقارنة مع البرجوازية الإنجليزية المسنة والبرجوازية الفرنسية، في الصِّراع مع ماضي الشُّعوب العصرية.
"إنَّ تمركز التِّجارة والمانيفاكتورة في بلد واحد، إنجلترا، كما تطورت دون انقطاع في القرن السَّابع عشر، قد خلق بصورة تدريجية، سوقاً عالمية مناسبة من أجل هذا البلد، وكذلك طلباً على المنتجات المصنعة من هذا البلد، لم تكن القوى المنتجة الصِّناعية المتوفرة حتى ذلك الحين قادرة على تلبيته، إنَّ هذا الطَّلب الذي تجاوز القوى المنتجة، قد كان القوة الحافزة التي أخرجت بإنتاجها الصِّناعة الكبرى إلى الوجود، ولقد كانت الشُّروط الأخرى لهذا التَّطور الجديد موجودة سلفاً في إنجلترا، في حرية المزاحمة ضمن الأمة، وتطور الميكانيك النَّظري، إلخ (في الحقيقة إنَّ علم الميكانيك الذي أحكمه نيوتن، قد كان العلم الأكثر شعبية في فرنسا وإنجلترا في القرن الثَّامن عشر) (كان لابدَّ من ثورة في كلِّ مكان من أجل الفوز بحرية المزاحمة ضمن الأمة، (1640م) و(1688م) في إنجلترا، و(1789م) في فرنسا – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
لذلك سيكون من الطَّبيعي أنْ تتأخر البرجوازية الألمانية، التي كانت صغيرة جداً بالمقارنة مع البرجوازية الإنجليزية العملاقة، والبرجوازية الفرنسية النَّاضجة تمام النُّضج، في الانخراط في الصِّراع مع ماضي الألمان، أو بالأحرى، أنْ يتأخر صراع البروليتاريا مع البرجوازية القزمية الألمانية، إلى أجل غير معروف في التَّاريخ، وأنْ تعبر هذه البرجوازية الصَّغيرة، غير متكاملة بالمعنى الحديث للكلمة، عن حركتها في الفلسفة الألمانية.
يقول ماركس: "الأمراء يجدون أنفسهم في صراع مع المَلَكية، والبيروقراطية مع النَّبالة، والبورجوازية معهم جميعاً، في حين أنَّ البروليتاري لا يلبث أنْ يبدأ الصِّراع ضدَّ البورجوازي - كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل".
"ببينما كانت البرجوازية الفرنسية، بوساطة أضخم ثورة عرفها التَّاريخ، ترتفع إلى السُّلطة وتغزو القارة الأوروبية، وبينما كانت البرجوازية الإنجليزية التي سبق أنْ تحررت سياسياً، تثير الصِّناعة وتخضع الهند سياسياً، وتخضع بقية العالم تجارياً، لم يذهب البرجوازيون الألمان في عجزهم إلى أبعد من (الإرادة الطَّيبة) - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
وهكذا، فمادام المجتمع الألماني، لم يكن ناضجاً بعد بالمعنى الصِّناعي الحديث، أي بالمعنى الرَّأسمالي، فسيكون من الطَّبيعي، أنْ تجد البروليتاريا الألمانية في الفلسفة الألمانية، في الإرادة الطَّيبة، والماهية الإنسانية، أسلحتها الفكرية، أو كما يقول كارل ماركس:
"إنَّ الفلسفة تجد في البروليتاريا أسلحتها المادية، كما تجد البروليتاريا في الفلسفة أسلحتها الفكرية - كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل".
وهكذا، ستكون الفلسفة، أي النَّظرة القديمة للعالم، الفكر التَّاريخي للحركة الألمانية التي كانت تقودها البرجوازية، نحو إقامة سيادتها السِّياسية، وتجر وراءها ووراء فلسفتها، البروليتاريا ضدَّ العالم القديم، عالم ما قبل البرجوازية. ولكن لماذا تجد البروليتاريا الألمانية في الفلسفة الألمانية، أسلحتها الفكرية؟
بكل بساطة، لأنَّ "البروليتاريا ما زالت في بداية تكونها في ألمانيا، بفضل بدايات التَّطور الصِّناعي"، و"الواقع أنَّ الثَّورات تحتاج إلى عنصر سلبي، إلى قاعدة مادية"، لذلك فـ "كما بدأت الثَّورة في الماضي في دماغ الرَّاهب، تبدأ الآن في دماغ الفيلسوف - كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل" وهذه الثَّورة تسبق تاريخياً، الثَّورة التي تأتي بالضَّرورة، على النَّقيض من فكر الرَّاهب والفيلسوف، وهي ثورة الكومونة.
وهكذا، فبكلِّ بساطة، يعود التَّناقض بين منهج ماركس التَّجريبي ومنهج هيغل العقلاني، إلى المستوى المتقدم للاقتصاد الرَّأسمالي الإنجليزي الذي تمثله أبحاث الاقتصادية – التَّاريخية الجديدة عن التَّاريخ، بالمقارنة مع المستوى الاقتصادي المتخلف للألمان، فالمضمون الواقعي لأعمال الإنجليز، كان يمثل التَّطور التَّاريخي الذي قدم المواد التَّاريخية التي لابدَّ للبشر، أنْ يعيدوا النَّظر بموجبها، فيما مضى من التَّاريخ، وعلاقة البشر بهذا التَّاريخ بصورة تجريبية، أمَّا المضمون التَّأملي للتَّاريخ من قبل الألمان، فكان يمثل البنية غير النَّاضجة للبرجوازية الألمانية، فالألمان حاولوا تفسير التَّاريخ من خلال الأفكار المجردة، المستقلة عن الواقع التَّاريخي، وهذا على عكس الإنجليز والفرنسيين الذين تقدموا في العمل التَّجريبي بخطوات كبيرة، مقارنة بالألمان الذين كانوا يختبئون وراء عالمهم الوهمي، عالم الأفكار المحضة.
"إنَّ أمماً عظمى – الفرنسيين، والأمريكيين الشَّماليين، والإنجليز – تعمد باستمرار إلى المقارنة فيما بينها على صعيد النَّظرية والممارسة على حد سواء، في المزاحمة وفي العلم، أمَّا البقالون الصِّغار والبرجوازيون الصِّغار مثل الألمان، الذين يخافون المقارنة والمزاحمة، فيختبئون خلف درع الفرادة التي يزودهم بها صنَّاع لصاقاتهم الفلسفية"، "وإنَّ الفلسفة الألمانية بصورة خاصة هي نتيجة للبنية البرجوازية الصَّغيرة الألمانية - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
وهكذا، فالفلسفة الألمانية، كانت تمثل حركة الليبراليين الألمان و"ليست هذه الليبرالية الألمانية، سوى هذيان حالم، سوى الانعكاس الأيديولوجي لليبرالية الفعلية، لشدَّ ما يصبح من اليسير إذن تحويل مضمونها كلياً إلى فلسفة، إلى تعميمات مفهومية محضة، إلى (معرفة عقلانية) - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
فالحلم الفلسفي الألماني إذاً، لم يتجاوز حلم البرجوازية القزمية التي كانت أضعف نقطة في أوروبا الغربية آنذاك.
"إنَّ برجوازية هولندا الصَّغيرة، بمصالحها الطَّبقية النَّامية جيداً، كانت أقوى من البرجوازية الألمانية، التي تتفوق عليها عدداً، حتى درجة بعيدة بعطالتها ومصالحها الحقيرة المنقسمة. كان انقسام المصالح، يقابل انقسام التَّنظيم السِّياسي إلى إمارات صغيرة ومدن إمبراطورية حرة - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
"إنَّ عام (1842م) ليعتبر مرحلة أوج الليبرالية الألمانية، لأنَّ الفلسفة شاركت في ذلك الحين في الحياة السِّياسية، و يقول بوير إنَّ الليبرالية لم تخلف سوى (الأصداء) في حين أنَّ الليبرالية في ألمانيا لا تملك في حقيقة الأمر وجوداً فعلياً، وبالتَّالي حظاً في بعض النَّجاح، إلاَّ في الوقت الحاضر، إذ تحس البرجوازية الألمانية بصورة فعلية الحاجة، النَّاشئة عن الشُّروط الاقتصادية، إلى السُّلطة السِّياسية وتسعى إلى تحقيقها - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".
وهكذا، فكيف بمستطاع هذا القزم الحقير، البرجوازية النَّاشئة الألمانية، أنْ تعبر عن مستقبل الألمان، إلاَّ عن طريق الفكر الوحيد الذي كان متوفراً لدى الألمان، أي الفلسفة؟ فكيف بمستطاع شعب كهذا أنْ يعبر عن مستقبله إلاَّ من خلال التَّأمل التَّاريخي المعد من قبل فلاسفة الألمان؟
"إنَّ القديس ماكس يقدم لنا ههنا مرة أخرى برهاناً على سذاجته غير المحدودة، إذ يدفع إلى حدود قصوى أعظم من أيٍّ من سابقيه، إلى الإيمان بالمضمون التَّأملي للتَّاريخ، المعد من قبل فلاسفة الألمان"، "إنَّ السَّبب في أنَّ القديس ماكس يتبنى الفكرة الهيغلية عن سيطرة الفلاسفة على العالم، ويحولها إلى تراتب يكمن في الانعدام المطلق للفكر النَّقدي لدى قديسنا وفي سذاجته، وكذلك في جهالته (المقدسة) أو العضالة، أنَّه يكتفي بإلقاء نظرة سريعة على التَّاريخ دون أنْ (يعرف) (الشَّيء) الكثير عنه (يعنى في حقيقة الأمر برؤية التَّاريخ من خلال مؤلفات هيغل التَّاريخية)"، "إنَّ الفلسفة الهيغلية قد حولت جميع الأمور إلى أفكار، إلى مقدس، إلى أطياف، إلى روح، إلى أرواح، إلى أشباح – كارل ماركس، الآيديولوجية الألمانية".
يقول هيغل: "الفكرة الوحيدة التي تأتي بها الفلسفة هي فكرة العقل – فكرة أن العقل يهيمن على العالم وبالتالي أن التاريخ هو أيضاً جرى عقلياً – هيغل، مختارات 2".
وهكذا، فالتَّاريخ جرى عقلانياً لدى هيغل، أمَّا لدى ماركس، فليس التَّاريخ سوى تاريخ الصِّناعة، فالعصر الحجري، ليس عصر البرونز أو عصر الحديد، كما وأنَّ أي عصر من هذه العصور المختلفة، لا يمكنه أنْ يشبه عصراً آخر من العصور التَّاريخية الأخرى، كعصر صنع أسلحة الصَّيد مثلاً، أو صنع ميكروسكوب، أو صناعة الطَّيران.
الخلاصة:
بينما كان الألمان ما يزالون غارقين في أوهامهم الفلسفية للقرن الثَّامن عشر، كان الاقتصاد السِّياسي الإنجليزي، يتطور كعلم مستقل، أو بوصفه فرعاً من المعرفة الموسوعية، ورفع بفضل الفيزيوقراطيين إلى مرتبة علم خاص، حسب ماركس، العلم الذي بدأ بإرجاع ظهور، وتطور، واختفاء الظَّواهر الاجتماعية، إلى أسسها المادية، إلى علاقات اقتصادية - تاريخية، العلم الذي قدم أخيراً، فرصة فهم العالم بصورة مغايرة تماماً عن الفلسفة الألمانية، التي تعتبر نهاية الفلسفة لدى كارل ماركس:
"إنَّ الألمان يحكمون على سائر الأشياء من وجهة نظر الأزلية (وفقاً لماهية الإنسان) أمَّا الأجانب فينظرون إلى الأمور جميعاً بصورة عملية، وفقاً للبشر الفعليين والظُّروف الفعلية التي يواجهونها، إنَّ أفكار الأجنبي وأعماله معينة بالوقت الحاضر، أمَّا أفكار الألماني وأعماله فمعينة بالأزلية - كارل ماركس، الآيديولوجية الألمانية".
إنَّ نهاية الفلسفة الألمانية، هي فلسفة فيورباخ، وأفكار الاشتراكية المستعارة من الإنجليز والفرنسيين، والتي مزجها الشُّيوعيين الألمان، مع مقدماتهم الفلسفية الألمانية الخاصة، كما يقول كارل ماركس، الأفكار التي ظهرت جنباً إلى جنب مع الأفكار البرجوازية الليبرالية الألمانية، والتي تعبر عن حياة لم تفرّخ بعد عند الألمان، إلاَّ في دماغهم، إنَّ هذه الأفكار لم تكن ثمرة الإنتاج الرَّأسمالي الألماني، أو لم تكن ناتجة عن شروط تطور سابق للألمان أنفسهم، فلم تجد الشُّيوعية الألمانية، مقدماتها المادية المسبقة في الحالة الألمانية قطعاً، وبالأحرى أصبحت هذه الشُّيوعية الألمانية، جزءاً من الحركة البرجوازية الليبرالية الألمانية، ولم يكن بمستطاع منتقدي هذه الحركة، ولا الشُّيوعيين أنفسهم، التَّمييز بين الليبرالية والشُّيوعية إطلاقا، ولم يكن بمستطاع الشُّيوعيين الألمان القدماء فهم الشُّيوعية، إلاَّ باعتبارها مقولة فلسفية.
وهكذا فـ "لم يغادر النَّقد الألماني، حتى في آخر الجهود التي بذلها، ميدان الفلسفة قط - كارل ماركس، الآيديولوجية الألمانية".
ونعني بذلك، أنَّ "الفلاسفة لم يصفوا العلاقات الاجتماعية على أنَّها العلاقات المتبادلة لهؤلاء الأفراد المتماثلين مع بعضهم، ولا قوانين الطَّبيعة على أنَّها الرَّوابط المتبادلة بين هذه الأجسام المحددة أو تلك - كارل ماركس، الآيديولوجية الألمانية".
وهنا، هنا بالضَّبط، تتوقف الفلسفة، وتخلي مكانها بالضَّرورة لنظرة جديدة إلى التَّاريخ، وهي العلم التَّجريبي، فالعمل التَّجريبي، هو الذي أخذ المواد من التَّاريخ لإنقاذ هذا التَّاريخ من أوهام الفلسفة بالذَّات، ولكن لم يحدث هذا إلاَّ بعدما تلوثت الشُّيوعية بالفلسفة، فشيوعية متلوثة بالفلسفة الألمانية بالذَّات، انتشرت في القرن الماضي، مثل الوباء في العالم، فالفلسفة التي قد باتت نهائياً بالنِّسبة للألمان أنفسهم في القرن التَّاسع عشر، أصبحت نظاماً فلسفياً جديداً للرُّوس في القرن العشرين، فبفضل بليخانوف، الموسوعة الفلسفية الرُّوسية، أسست فلسفة جديدة تسمى الماركسية، ثمَّ الماركسية- اللينينية في مدرستها الرُّوسية (انظر: التَّناقض بين المادية التَّاريخية والفلسفة الماركسية) الماركسية التي كانت أكثر الفلسفات انتشاراً في العالم، خاصة لدى الشُّعوب التي كانت ما تزال، تناضل ضدَّ ماضي الشُّعوب المتحضرة (آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا)، ولكن لم يكن حظها أحسن من الفلسفة الأم (الهيغلية - الفيورباخية) نفسها، حين لم يقف التَّاريخ في مكانه، كما وقفت الفلسفة نفسها نهائياً في مكانها، فتمركز التِّجارة، والمبادلة العالمية، والصِّناعة الكبرى، باشر بتكوين تاريخٍ عالميٍ مماثلٍ للعالم الصِّناعي، ابتداءً من أواسط القرن السَّابع عشر، وأصبح العالم أخيراً، مسرحاً للتَّناقضات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية التي لا حل لها، دون إنهاء الإنتاج الرَّأسمالي، أي ثورة كومونية في أسلوب الإنتاج والتَّوزيع، وهذا ما بدأت النَّظرة الاقتصادية - التَّاريخية بالتَّجربة عليه، من خلال النَّظر إلى تاريخ التَّطور الصِّناعي الإنجليزي بصورة تجريبية، أو بصورة مادية، واقعية، وتبدأ أبحاث ماركس التَّجريبية، من النُّقطة التَّاريخية التي يتوقف عندها الاقتصاد السِّياسي بالتَّحديد.
يقول ماركس: "إنَّ المادة الضَّخمة في تاريخ الاقتصاد السِّياسي التي جمعت في المتحف البريطاني، وكون لندن مركز مراقبة ملائم لأجل دراسة المجتمع البرجوازي، وأخيراً مرحلة التَّطور الجديدة التي دخل فيها هذا المجتمع، على ما يبدو منذ اكتشاف الذَّهب في كاليفورنيا وأستراليا، كلُّ هذا دفعني من جديد للعمل من البدء بالذَّات، وإلى معالجة المادة الجديدة بعين نقادة"، "أني كنت مضطراَ إلى الاطلاع على التَّفاصيل العملية القائمة، على ما وراء حدود الاقتصاد السِّياسي الصِّرف – كارل ماركس".