الماركسية والفاشية الجديدة
دائما ما تصاحب الأزمات الاقتصادية الكبرى توترات اجتماعية وسياسية حادة. وبرغم أبواق الدعاية الرأسمالية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي لفكرة النظام العالمي الجديد والحلول السلمية للمشكلات التي تنشأ بين الدول، برهنت الأحداث المتعاقبة على استحالة قيام هذا النظام الجديد في ظل الرأسمالية. فمن الحروب والتوترات السياسية بين دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى حرب الخليج الثانية بين العراق والولايات المتحدة ومن الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة إلى حرب روسيا للشيشان وأخيرا ظاهرة العنف التي تستشري في العالم ككل.
لم يكن انهيار مبنى الحكومة الفيدرالية في أوكلاهوما بالولايات المتحدة حدثا عرضيا. فقد أحرز اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة نجاحات كبيرة على مستولى التنظيم، خاصة بعد حرب الخليج الثانية. وانتشرت النزعات العنصرية ضد اليهود والزنوج بين أوساط جماهير البرجوازية الصغيرة وشكلوا قوة رئيسية في مناطق عديدة خاصة في ميتشجان وتكساس فنجد تنظيم مثل "ميليشيات ميتشجان" قد نما عدد اعضائه من 12000 إلى 20000 عضو. هذا بالإضافة إلى عدد من الميليشيات الأخرى في 18 ولاية أمريكية. وتتبنى هذه الجماعات أفكارا معادية للصناعة الكبيرة وخاصة في المجالات الدقيقة مثل الكمبيوتر والهندسة الوراثية بالإضافة إلى مجالات البحث العلمي وكذلك العمالة المهاجرة وجاء على لسان أحد قادتها أن كل 2 مليون مهاجر يساوى في المقابل 2 مليون عاطل عن العمل. وأنهم يهدفون من وراء هذه التفجيرات إلى "هز استقرار المجتمع الصناعي، والدعاية ضد أفكاره وتشجيع كراهيته".
ومع ذلك، فمعظم قادة الميليشيات الفاشية يعارضون حادث اوكلاهوما ويدعون أعضاءهم إلى "السلوك النموذجي " وعدم انتهاك المؤسسات الحكومية والقانونية ولكن نمو التيار المعارض للحكومة في أوساط اليمين المتطرف خاصة في ميتشجان جعلهم يعلنون أن " الحرب والتمرد المسلح شئ حتمي حتى تتغير الروح السائدة في البلاد".
وكان حدث تفجير المبنى في أوكلاهوما في 19 إبريل هو الذكرى السنوية لحدثين هاجمت فيهما القوات الفيدرالية ميليشيات اليمين المتطرف في "أيداهو" عام 1992 و"واكو" بولاية "تكساس" في عام 1993. ومن بين أسباب التفجير أيضا اعتقاد قادة الميليشيات أن الحكومة الفيدرالية تخطط لاعتقالهم خاصة بعد حظر حمل السلاح بالنسبة للأفراد المدنيين.
وبعد الانفجار مباشرة قامت الحكومة الأمريكية باعتقال عدد كبير من العرب والشرق أوسطيين لاعتقادها أن الجماعات الإسلامية وراء هذا الانفجار. ورغم إكتشاف المسئولين الحقيقين عن الإنفجار وأنهم من الأمريكيين البيض فمازالت الحكومة تخطط الزيادة إجراءات القمع التي تدعو إلى ترحيل الأفراد المشكوك فيهم دون إبداء الأسباب، ومن المتوقع إن تزيد أعداد هذه الميليشيات من جراء هذه الإجراءات الجديدة كما حدث ذلك بعد حادثتي "واكو" و"أيداهو"، حيث ترى هذه الميليشيات أن إجراءات الحكومة الفيدرالية تشكل خطرا على الحرية الأمريكية ويجب مقاومتها.
ووراء هذا التخبط يتكشف واقع اقتصادي مرير تعانيه الولايات المتحدة منذ بداية الركود في بداية السبعينات وان كانت تتخلله فترات انتعاش قصيرة وقليلة جدا. وقد تزايدت حدة هذا الركود بعد فترة انتعاش قصيرة بعد حرب الخليج الثانية ساعد عليها انخفاض أسعار البترول. وفى السنوات الأخيرة انخفضت معدلات النمو بشكل حاد بسبب تخفيض الحكومة للإنفاق الاستهلاكي الذي يعتمد عليه ثلثي النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، حيث تزايد المخزون من البضائع الراكدة بأعلى معدل له في العشر سنوات الأخيرة. وانخفض الناتج القومي إلى أقل معدل له منذ 1993 (5.1 % ) حيث وصلت نسبة النمو إلى 2.8 % في الربع الأول من عام 1995.
ومع انخفاض معدلات النمو تزايدت حدة التضخم ووصلت إلى أعلى نسبة لها في السنة الماضية: 3.1 % سنويا بعد أن كانت 2.6 %، وانخفض الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 70 % عن السنة الماضية وخاصة في السلع المعمرة.
ومع ذلك فقد انخفضت الصادرات والواردات بنسبة كبيرة وان كانت نسبة الانخفاض في الصادرات أعلى كثيرا من الواردات مما يشكل خللا في الميزان التجاري. ومن المتوقع أن يزيد حجم المخزون من البضائع الراكدة خاصة في ظروف الأزمة الاقتصادية التي تعانيها الرأسمالية العالمية وهى أطول أزمة في تاريخها على الإطلاق.
وليست الولايات المتحدة وحدها هي التي تعانى من هذه الظواهر ولكن في أوروبا أيضا تصاعد تأثير المنظمات الفاشية نتيجة للركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وفشل السياسات الحكومية في استيعاب الأزمة بالإضافة إلى تراجع جماهيرية أحزاب الطبقة الحاكمة التقليدية وكذلك أحزاب الطبقة العاملة. هذا الفراغ دفع بالكثير من عمال الياقات البيضاء والمهنيين والبرجوازية الصغيرة إلى أحضان الفاشية التي يتزايد تأثيرها باستمرار. إن النمو الهائل الذي أحرزته الرأسمالية العالمية في فترة اقتصاد السلاح الدائم بعد الحرب العالمية الثانية ضاعف من حدة تأثير الأزمة على قطاعات البرجوازية الصغيرة لصالح رؤوس الأموال الكبيرة، ولذلك تجد الأفكار الفاشية المعارضة للصناعة الكبيرة جماهيرية عالية في أوساط هؤلاء. ويضاف إلى ذلك أن التطور التكنولوجي دفع بالعديد من المهنيين وعمال الياقات البيضاء إلى مستويات الطبقة العاملة التقليدية مما يدفعهم إلى كراهية سيطرة الصناعة الكبيرة التي دمرت موقعهم المتميز في المجتمع. ويأتي العاطلون عن العمل المخلوعون من نسيج المجتمع لاستكمال التكوين الاجتماعي للحركات الفاشية.
إن الفاشية تتكون من تلك الطبقات التي تقع مباشرة فوق الطبقة العاملة في التكوين الاجتماعي. ولكن هذه الطبقات لا تندفع بالضرورة نحو الفاشية، فمن الممكن أن تؤيد حركة الطبقة العاملة أو أي حركة سياسية أخرى. ولكن الفراغ السياسي الذي يخلقه تخبط الطبقة الحاكمة في ظروف الأزمة وعدم قدرة الحركة العمالية على النمو والإطاحة بالنظام الرأسمالي يشكل مجالا خصبا لصعود الحركة الفاشية.
وتهدف الحركة الفاشية إلى عسكرة المجتمع، وتدمير أي شكل من أشكال الديمقراطية أو المنظمات المستقلة عن الدولة خاصة منظمات الطبقة العاملة وهي في سعيها إلى ذلك توجه غضب الجماهير إلى أقليات اجتماعية معينة مثلما حدث لليهود في ألمانيا، أو مثلما يحدث الآن - وان كان بشكل جنيني - للعمالة المهاجرة في أوروبا.
وتعتمد الفاشية في حركتها على تحريك عارم للجماهير وفى هذا السياق تتزايد شعبية الجبهة الوطنية في فرنسا والنازيون الجدد في ألمانيا حيث تنتشر الشعارات المعادية للأتراك واليهود والعمالة الأجنبية.
والفاشية هي شكل خاص من أشكال الديكتاتورية الرأسمالية تظهر في فترات الأزمة الاقتصادية والسياسية للبرجوازية الحاكمة وعدم قدرتها على الهجوم على الطبقة العاملة التي تكون في موقف يسمح لها للتصدي للبرجوازية ولكنها تكون غير قادرة على إنجاز ثورتها بسبب تفتت قيادتها. وتأتى الفاشية لتدمير قوة الطبقة العاملة بالذات وحل أزمة الرأسمالية من خلال حركة جماهير البرجوازية الصغيرة لفرض ديكتاتورية عسكرية على المجتمع بالكامل ومن الممكن أن تهاجم بعض الرأسماليين وتصادر أموالهم من أجل صالح الرأسمالية ككل وكذلك طموحاتها الاستعمارية.
بالطبع لم تصل الفاشية في أوروبا إلى القوة التي كانت لها في العشرينيات والثلاثينات، ولكن طالما استمرت الأزمة الاقتصادية والسياسية دون أن تستطيع أي من الطبقة الحاكمة أو الطبقة العاملة حل الموقف تتزايد بالطبع إمكانية صعود الحركات العنصرية والفاشية. وبالفعل فان الأحداث الجارية تشكل جنين الحركة الفاشية في أوروبا والولايات المتحدة. ففي ألمانيا لم تستطع الحكومة استيعاب الأزمة حتى بعد سقوط حائط برلين والتوحيد بين شقيها. ففي بداية عام 1993 كان عدد العاطلين عن العمل 3.5 مليون، 2.5 منهم في ألمانيا الغربية. وفقد كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي شعبيتهم بين العمال والطلبة في نفس الوقت الذي صعدت فيه حركة النازيين الجدد. وفى إيطاليا تسبب الفساد الحكومي وتأثير الأزمة الاقتصادية خاصة في الجنوب في انتشار المجموعات الفاشية والتي، في ذكرى وفاة موسولينى، قامت بمظاهرات كبيرة.
وفي أمريكا فإن الحكومة الأمريكية بإجراءاتها القمعية المتزايدة تساعد على نمو هذه الحركات. فليست الإجراءات القمعية وحدها وإنما أيضا السياسات التي تتخذها تلك الحكومة تتضمن تشجيعا للأفكار الفاشية مثل الإجراءات الوطنية واضطهاد الزنوج والأجانب والتهديد بترحيل المشكوك فيهم.
إن مواجهة الفاشية الجديدة لا تنفصل عن مواجهة النظام الرأسمالي ككل. فالصراع ضد الفاشية لابد أن يكون صراعا من اجل الاشتراكية العالمية. ولا بد أن يكون ذلك من خلال المواجهة المباشرة مع الفاشيين وليس مجرد الدعاية ضدهم. فلابد من تشتيت مظاهراتهم ومهاجمة مؤسساتهم الدعائية من أجل إضعاف تأثيرهم. ولن يكون ذلك إلا بتكوين جبهة متحدة من أحزاب الطبقة العاملة في مواجهة الفاشية، والدعاية لأفكار الاشتراكية الثورية لفرض هيمنة أيديولوجية على قطاعات البرجوازية الصغيرة والمهنيين التي تشكل الجوهر الصلب للحركات الفاشية.
والجدير بالذكر أن الموقف يختلف تماما فيما يتعلق بالحركة الإسلامية ويخطئ من ينعت الحركة الإسلامية بالفاشية فعلى الرغم من تشابه الحركتين من ناحية التكوين الطبقي فهناك اختلافات جوهرية بينهما. فنادرا ما دخلت الحركة الفاشية في مواجهة مباشرة مع الحكم البرجوازي بينما تضع الحركة الإسلامية الحكم البرجوازي كعدو رئيسي لها وتعتبر أن الإصلاح لن يتم إلا بعد الإطاحة بالدولة القائمة، والحركة الفاشية تهدف إلى حل أزمة الرأسمالية بطرح المشروع الاستعماري على جدول أعمالها وهدم المنظمات العمالية لكسر مقاومة الطبقة العاملة للرأسمالية، ولكن الحركة الإسلامية المسلحة قامت في الأصل كنتيجة للإمبريالية وتحمل مشروعا خياليا، صورة لمجتمع "يوتوبيا" يقوم على المزج بين القديم والحديث. إن التعامل مع الحركة الإسلامية يستدعى فضحها أمام جمهورها وطرح بديل ثوري حقيقي في مواجهة البدائل الطوباوية الرجعية التي تطرحها. أما الحركة الفاشية فالتعامل معها يكون من خلال خلق جبهات متحدة مع التنظيمات والأحزاب العمالية لمواجهة تلك الحركة وتدميرها.