نتساءل في هذا المحور عن قيمة الحقيقة و من أين تستمد هذه القيمة ؟
أن تكون الحقيقة قيمة معنى ذلك أنها ما يرغب فيه الإنسان و يسعى إليه نحوه بقصد أو بغير قصد سواء على مستوى الفكر النظري أو الممارسة العملية أو بسلوك الأخلاق، و إذا كانت الحقيقة من حيث هي قيمة فكرية و أخلاقية فقد اعتبرت في الفلسفة الكلاسيكية غاية في حد ذاتها و بالتالي كان التفكير الفلسفي يعتبر بحثا عن المعرفة و الحقيقة المجردة عن كل منفعة أو مصلحة.
إلا أن الاتجاه البراغماتي (النفعي( للفلسفة المعاصرة سيعتبر أن قيمة الأفكار تتحدد بما تحققه من منافع، و لهذا سيعتبر ممثل هذا الاتجاه ويليام جيمس أن الحقيقة ينبغي أن تكون قيمة عملية و وسيلة لتحقيق المنفعة، إلا أن الانتقال الرئيسي الذي يوجه لهذا التصور النفعي هو أنه يؤدي إلى نسبيتها و اختلافها باختلاف مصالح الأفراد و الجماعات بمعنى إذا كانت الحقيقة هي ما ينفعني فقد تكون مضرة للآخرين و من ثمة قد تتحول الحقيقة إلى نقيضها.
غير أن بركسون في شرحه لفلسفة ويليام جيمس يبين أن الأمر لا يتعلق بإقرار نسبية الحقيقة بالمعنى اللاأخلاقي و إنما أراد ويليام جيمس أن يقدم بديلا عن المفهوم التقليدي للحقيقة غير أن هذا التأويل لا يلغي في نظر كانط البعد اللاأخلاقي لربط المنفعة بالحقيقة لأن ذلك يسمح في نظره بارتكاب الشرور و المظالم في حق الآخر مادام في ذلك نفع و فائدة، يصف تصور كانط للحقيقة باعتبارها غابة في ذاتها و واجبا أخلاقيا ذا بعـد إنساني حقيقـي لأن إنتـاج الحقيقة و قولها يعتبر أمرا غير مشروط.
و لهذا فهو يعتبر أن الكذب و لو على إنسان واحد يضر بالإنسانية جمعاء لأنه يحطم أساس التواصل و التفاهم و الاحترام المتبادل بين البشر.
***** ***** *****
و قد أكد أفلاطون على لسان سقراط في محاورة جورجياس أن الحوار هو الضامن للحقيقة أي أن ما يضمن موضوعية الحقيقة و كونيتها هو تبادل الحجج و البراهين دون خطابة أو بـلاغة أو مغالطة لأن جميـع هـذه الوسـائل تشـل فعـالية العقـل و تخاطب العـواطف و الأهـواء و تحول الكذب و شهادة الزور إلى حق و تجعل الإجماع و التبعية غاية لها بدل البرهان و الحرية و الاستقلال و النزاهرة التي تظل شروطا أخلاقية للحقيقة تضمن قيمتها و طبيعتها الكونية