لقد تأسس العقل في الفلسفة اليونانية باعتباره عقـلا كليا كـونيا هو أسـاس النظـام و الانسجام في هذا العالم، يقابله عقل إنساني ناقص لكنه يسعى إلى تجاوز هذا النقص عن طريق التأمل و التحرر من الجسد و غرائزه و أهوائه، و لقد تأسس العقل عن طريق التأمل بعد أن انتقـل الفكـر اليـوناني من الاعتمـاد علـى مـا هو شفـوي [ الميتوس ] إلـى مـا هو مكتـوب [ اللوغوس ] لأن الأدب المكتوب عموما يخضع لمجموعة من القواعد التي تجعله أكثـر تنظيما و دقة من الحكـاية الشفوية إضـافة إلـى الدقة فـي الاستدلال و تقـديم الحجـج و البراهين.
و هذه النظرة الكلية و الموضوعية للعقل سيتم تجاوزها مع تأسيس الفلسفة الحديثة مع ديكارت و سيصبح العقل ذا مفهوم ذاتي ضيق العقل ملكة بها يفكر الناس و يحكمون، أن تكون عاقلا معناه أن تعرف كيف تستخدم ذكاءك هكذا سيصبح العقل أداة لمعرفة مختلف الظواهر الكونية و تسخيرها لصالح الإنسان لكن ما طبيعة هذه الملكة، هل هي طبيعة فطرية أم ثقافية مكتسبة، و هل العقل وحده الأداة التي تمكننا من إنتاج المعرفة، أم أن المعرفة عملية مركبة أم لكل من العقل و الحواس دور في إنتاجها ؟
هناك تصوران بخصوص طبيعة العقل؛ الأول نجده عند ديكارت، و الثاني نجده لدى الفلاسفة التجريبيين [ دافيد هيوم، جان لوك ].
الموقف الأول يركز على اعتبار العقل ذو طبيعة فطرية، فكل الناس يولدون و هم مزودون بهذه الملكة و لهذا يعتبر ديكارت أن العقل هو أعدل قيمة بين الناس جميعا، و إنهم يتساوون فيه بالفطرة و لكن يختلفون في طريقة استخدامه. لكن ما ينبغي أن نفهمه من فطرية العقل هو أن ديكارت يعتبر هذه الملكة تتضمن مبادئ فطرية هي أساس قدرتنا على ممارسة مختلف العمليات الذهنية أو العقلية بسيطة كانت أم معقدة، و هذه المبادئ هي: مبدأ الهوية – عدم التناقض – الثالث المرفوع – السببية و الحتمية.
إن ديكارت يعتبر أن الوظيفة الأساسية للعقل هي إنتاج المعرفة من خلال ممارسة التأمل العقلي بل أكثر من ذلك بل يعتبره المصدر الوحيد للمعرفة الحقة أما الحواس فلا دور لها في عملية المعرفة لأنها خداعة، ضد هذا التصور العقلاني الذي يجعل المعرفة من إنتاج العقل
- الاستدلال : عملية عقلية يتم من خلالها الانتقال من ما هو معلوم إلى ما هو مجهول
- الوجود : Ontos
- العرض : ج. أعراض و هي الخصائص المتغيرة
- الماهية أو الجوهر : الخصائص الثابتة للأشياء و للإنسان
وحده، نجد التصور الثاني الذي يمثله الفلاسفة التجريبيون الذين يعتبرون ألا وجود لشيء اسمه العقل بمعزل عن الحواس أو التجربة الحسية، فكل معارفنا تبتدئ بالحواس، بما في ذلك ما اعتبره ديكارت مبادئ فطرية و على هذا الأساس يصبح العقل متغيرا من شخص لآخر على اعتبار أن تجاربه تختلف الشيء الذي ينتج عنه إمكانية تغير العقل من مجتمع لآخر و من مرحلة تاريخية أخرى، إلا أن هناك موقفا ثالثا يمثله إيمانويل كانط و الذي حاول التوفيق بين التصورين العقلاني و التجريبي.
يعتبر كانط أن هناك مفهومين سابقين على كل تجربة و هما الزمان و المكان، في الزمان ندرك تآني الظواهر أو تتاليها أو تعاقبها. أما في المكان فندرك مختلف المعطيات الحسية كالشكل و الهيأة و الألوان و الأحجام إلا أن هذه المعطيات الحسية تبقى مجرد مدركات حسية ذات طابع مشتت و مفكك كما لو كانت لا رابط بينها و لا يمكن أن تتحول إلى معرفة إلا من خلال المفاهيم العقلية التي نعطيها هيأة و صورة.
إن كانط يتفق مع التجريبيين في كون كل معارفنا تبتدئ بالحواس و لكنها تنتهي عند المفاهيم العقلية الشيء الذي يعطـي لموقفه طـابعا توفيقيا لكـن ما حدود العقـل بالنسبة لكـانط أو بمعنى آخر ما هو المجال الذي يمكن للعقل أن ينتج فيه معرفة حقيقية ؟
يميز كانط بين نوعين من العقل، العقل العملي و العقل النظري، إن النوع الأول يمكن أن ينتج معرفة يقينية لأنه يستند إلى التجربة بمفهومها الواسع حسية و عملية و أخلاقية، فهي تسكح بإعادة النظر أو تعديل أو مراجعة ما تم اكتسابه من معارف، أما العقل النظري أو العقل الخالص (هو العقل المنقطع عن التجربة) فله موضوعات من نوع خاص هي القضايا الميتافيزيقية، إذا عدنا إلى تاريخ الفلسفة و حاولنا البحث في المعارف التي تم إنتاجها في مجال هذه القضايا، فسنجد أن العقل النظري أنتج حقائق متناقضة بشأنها، و لهذا اعتبر كانط أن العقل حينما لا يسند إلى التجربة يصبح عقلا جداليا سجاليا، و لهذا فإن المجال الوحيد الذي يمكن للعقل أن يقدم فيه معرفة يقينية هو ذلك