خلال المجزرة الإسرائيلية في غزة وبعدها، اجتاحت العالم موجة هائلة من المظاهرات الاحتجاجية ضد الجرائم الصهيونية. كيف يمكن للمرء ألا يحتج ضد مثل تلك الجريمة البشعة التي ارتكبت في حق شعب بأسره، شعب حرم من وطنه حتى قبل بناء إسرائيل؟
إلا أن هناك جانبا آخر للصورة، أي محاولة مجموعات هامشية من الفاشيستيين والنازيين الجدد في أوروبا استغلال هذا التضامن الأممي الرائع لمصلحتهم. إن هذه القوى تستفيد من الجرائم الصهيونية، من قبيل قصف واجتياح غزة الذي حدث قبل أشهر، من أجل نشر دعايتها المعادية للسامية. يزعمون أن هذه الجرائم ورفض الحكومات البرجوازية عبر العالم التدخل ضدها، ‘دليل’ على طبيعة اليهود الشريرة. كما أنهم يستخدمون ذلك لنشر القاذورات حول رغبة اليهود المزعومة "في السيطرة على العالم". الشيء الذي يذكرنا بالدعاية النازية ضد اليهود.
إن هذه المحاولة لتحويل اتجاه هذا النضال التقدمي والمشروع إلى مسارات عنصرية آتى أكله. فقد تصاعدت وثيرة الجرائم المعادية للسامية بحدة مؤخرا، وخاصة في أوروبا. لقد أدت المجزرة التي ارتكبتها الطبقة السائدة الإسرائيلية في غزة إلى تزايد الاعتداءات المعادية للسامية، التي لم تشهدها أوروبا منذ مدة. والمثير للعجب هو أن القوى الرجعية التي تقف وراء هذه الهجمات تتلقى المساعدة من جانب الزعماء اليهود عبر العالم: فقد لجأ أغلبهم إلى التزام الصمت أمام المجزرة التي ارتكبتها الصهيونية. إن أغلبهم يتفقون مع الأكاذيب الصهيونية والمعادية للسامية التي تصور إسرائيل باعتبارها دولة للشعب اليهودي وتصور الصهيونية باعتبارها حركة قومية وباعتبارها الممثلة الوحيدة "للأمة" اليهودية.
الحقيقة هي أن اليهود العاديين داخل إسرائيل، وخاصة خارجها، ليست لديهم أية علاقة مع المجزرة التي ارتكبت. كما أنه ليست لديهم أية علاقة مع الصهيونية. لكن ما داموا يواصلون دعم الدولة الإسرائيلية والحركة الصهيونية التي أدت إلى نشوئها، فإن المشاعر المعادية للسامية التي يؤججها الخلط بين الهمجية الصهيونية وبين الشعب اليهودي بأسره، ستستمر، معرضة حياة العديد من اليهود الأبرياء للخطر.
الصهيونية ومعاداة السامية تصور الحركة الصهيونية بكلبية كل
تصور الحركة الصهيونية بكلبية كل الانتقادات الموجهة ضد جرائمها، مهما كانت صحيحة ومبررة، باعتبارها معاداة للسامية.تصور الحركة الصهيونية بكلبية كل الانتقادات الموجهة ضد جرائمها، مهما كانت صحيحة ومبررة، باعتبارها معاداة للسامية. الشيء الذي يؤدي بدوره إلى الخلط بين النضال التقدمي ضد الصهيونية وبين القوى الرجعية التي تقف وراء معاداة السامية. إن كلا من الحركة الصهيونية والحركات المعادية للسامية تستفيد من هذا الخلط. ليست هذه أول مرة تتعاون فيها الصهيونية مع الحركة المعادية للسامية ضد اليهود وضد غيرهم من الشعوب.
على عكس ما تروجه الحركة الصهيونية، فإن الصهيونية ليست هي الرد المناسب على معاداة السامية. بل إنها هي بدورها شكل من أشكال معاداة السامية. لقد بدأت الصهيونية انعكاسا لخوف البرجوازيين الصغار اليهود الأوروبيين الغربيين من حدوث هجرة كثيفة ليهود أوروبا الشرقية. فتعاونوا مع أعداء السامية في أكثر من مرة من أجل هدف مشترك، ألا وهو تخليص أوروبا من سكانها اليهود (أغلبهم عمال فقراء) وإبعادهم عن الاندماج في الحركة العمالية المتصاعدة، وبالحركة البلشفية على وجه الخصوص.
تزعم الصهيونية، مثلها مثل معاداة السامية، أن اليهود مختلفين عضويا عن جيرانهم الغير يهود وأنه لا يمكنهم ولا ينبغي عليهم أن يندمجوا بهم. وهكذا تقدم الصهيونية لمعاداة السامية الإجابة عن المسألة اليهودية: يجب إجلاء اليهود من أوروبا إلى مكان بعيد.
الصهيونية والإمبريالية
لقد أدت الصهيونية في الماضي، من الناحية العملية إلى شيئين اثنين: أولا وقبل كل شيء، شجعت الاستيطان ‘اليهودي’ في فلسطين، بدءا بمجموعة من المغامرين الذين استولوا على أراضي الفلسطينيين ليشيدوا نوعا من المستعمرات ‘للمستوطن الأبيض’ عليها، وعندها استوردوا اليهود الفقراء ليشتغلوا عمالا وجنودا لاستغلالهم فوق تلك الأرض المسروقة نفسها. ثانيا، عملت أيضا على تأبيد انقسام العمال المحليين على أسس عرقية، "اليهودي ضد العربي"، وجعلتهم يصارعون بعضهم البعض بشكل مستمر بدل الاتحاد ضد مضطهِديهم المشتركين. وقد وفرت هذه الحالة فرصة فريدة للإمبريالية التي تعتبر السبب الرئيسي لاستمرارها لحد الساعة.
بعد تشكيل دولة إسرائيل، تلقت الاعتراف والدعم من جانب الإمبريالية. ومع تطور الحرب الباردة، ألقى الاتحاد السوفييتي (الذي ساند في البداية تقسيم فلسطين وخلق دولة إسرائيل) بثقله لمساندة الدول العربية، بينما توصلت الإمبريالية، الأمريكية على وجه الخصوص، إلى استيعاب معنى وجود دولة مثل إسرائيل بالنسبة لمصالحها في الشرق الأوسط. إن مثل هذه الدولة المصطنعة، التي تتسبب في كل تلك الصراعات بين بلدان الجوار، ستبقى دائما معتمدة على الإمبريالية، وستحتاج دائما إلى الاعتماد بكثافة على المساعدات العسكرية من أجل بقائها. وهكذا تلعب دور دولة عسكرية لصالح الإمبريالية العالمية ضد نضالات الجماهير العربية. هذا هو السبب الذي يجعل إسرائيل تتلقى كل ذلك الدعم من طرف الدول الإمبريالية. ليس السبب هو وجود ‘سيطرة يهودية’ سرية على الرأسمال العالمي، كما يزعم أعداء السامية. بل الرأسمال العالمي، بمنطقه الخاص، وبغض النظر عمن ‘يسيطر’ عليه، هو الذي يحدد الحاجة إلى دولة مصطنعة، وغير مندمجة في محيطها وشديدة العنف وهائلة التسليح في قلب العالم العربي.
لماذا يؤيد اليهود الصهيونية؟
ما الذي حدث حتى وجد اليهود، الذين كانوا دائما في طليعة القوى الثورية في أوروبا، أنفسهم متورطين في مستنقع أشد القوى رجعية وهمجية في العالم؟
في البداية كان أغلبية اليهود يتجاهلون الصهيونية. وكان العديد منهم يحتقرونها. ولم يهاجر إلى فلسطين سوى الأقلية من اليهود. إلا أن صعود النازية والفاشية في أوروبا أدى إلى إحداث تغيير جذري في المشهد. إن اليهود الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في أوروبا، والذين فشلت كل محاولاتهم للبحث عن ملجأ في بلدان الأخرى، صاروا مستعدين للذهاب إلى أي مكان بحثا عن ملجأ. وقد كان أغلبهم يرون في فلسطين آخر ملاذ ممكن. فأغلبيتهم رحلوا إلى أمريكا اللاتينية، وشمال إفريقيا وروسيا وأمريكا الشمالية وغيرها من الأماكن. فقط أقلية صغيرة منهم هي التي وجدت نفسها متجهة، ليس دائما برغبة منها، إلى فلسطين. لكن بالرغم من ذلك، وقع تدفق لليهود إلى فلسطين وهو ما كان كافيا لتوفير قاعدة صلبة للدولة الإسرائيلية المستقبلية. بعد المحرقة هاجر العديد من الناجين إلى فلسطين. لم تكن البرجوازية الأوروبية تريد التعامل مع اللاجئين اليهود وفضلت ترحيلهم إلى فلسطين. وقد تعاونت الوفود الصهيونية مع هذا الميل وعملت على إقناع الناجين المذهولين بالهجرة إلى فلسطين.
واليوم يمكننا أن نفهم لماذا يدعم اليهود الذين يعيشون في إسرائيل الصهيونية، سواء كان أسلافهم قد هاجروا إلى فلسطين بإرادتهم أم لا. ليس السبب راجعا فقط إلى كونهم يتعرضون بشكل مستمر لقصف الدعاية الصهيونية منذ نعومة أظفارهم. لكن أيضا بسبب الصراع الذي فجرته الحركة الاستعمارية الصهيونية في العالم العربي المحيط بهم، الشيء الذي يدفعهم إلى دعم الدولة الصهيونية باعتبار ذلك الطريقة الوحيدة لحمايتهم.
لكن لماذا يدعم اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل الصهيونية. في البداية نشير إلى أنهم يساندونها بحدة أقل مما يفعل اليهود داخل إسرائيل. ثم إن العديد من أكثر المنتقدين للصهيونية هم في الواقع من اليهود، وهذا طبيعي جدا. ثانيا، أولئك الذين يدعمون الصهيونية يقومون بذلك لسببين:
السبب الأول هو أن اليهود المحافظين توصلوا مع الوقت إلى أن اليهود سوف ينتهون بالاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها. وبهذا المعنى، فإن إسرائيل تعتبر المكان الوحيد حيث اليهود غير قادرين على "الاندماج"، في مكان لا يمكن أن يكون فيه أحد سوى اليهود.
السبب الثاني، والأكثر مدعاة للقلق، هو الحلقة الجهنمية الناجمة عن الخوف من معاداة السامية. إن اليهود يدعمون إسرائيل لأنهم يرون فيها ملجأَ من عودة ظهور معاداة السامية، إلا أن هذا الدعم بدوره هو الذي يصب الزيت على نار معاداة السامية. يجب كسر هذه الحلقة الجهنمية إذا ما نحن أردنا تخليص العالم من معاداة السامية. إن الصهيونية ليست ملجأ لليهود المضطهدين ولا يمكنها أن تكون كذلك. بل على العكس هي من تجعل اليهود ضحايا سهلة للاضطهاد. إنها آلية مناسبة لإبقاء اليهود منعزلين داخل المجتمعات التي يعيشون فيها، وطالما هم لا ينتقدون هذه الحقيقة، بصوت عال وبشكل واضح، سيبقى من الأسهل بكثير لمعاداة السامية الخلط بينهم وبين جرائم الصهيونية.
ليس هناك من أمة يهودية
يطرح الصهاينة مسألة تبدو مشروعة: أليس لليهود الحق في تقرير مصيرهم، مثلهم في ذلك مثل باقي الأمم؟ ينبغي أن يكون الجواب على هذا السؤال واضحا: في نفس الوقت الذي ندعم فيه حق اليهود الإسرائيليين، الذين يعيشون في فلسطين منذ ستين عاما، في تقرير المصير، فإن تقرير المصير هذا (المؤسس على قاعدة حق اليهود الإسرائيليين في امتلاك لغتهم الخاصة وثقافتهم الخاصة في المنطقة التي يعيشون فيها) لا يمكن أن تستخدم تبريرا للنزعة التوسعية الصهيونية أو تبريرا لاحتلال شعب آخر. ولا يمكن أن تكون بديلا عن نضال اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، إلى جانب إخوانهم وأخواتهم الطبقيين، ضد الرأسمالية والعنصرية. لا ينبغي البحث عن الحل للمأزق الذي يعيش فيه اليهود على أساس قومي، بل ينبغي البحث عنه على أساس طبقي.
على عكس الدعاية الصهيونية، لم يشكل اليهود عبر العالم ‘أمة’ مثل الأمة الإنجليزية أو الروسية أو الألمانية. لا يتقاسم اليهود أرضا مشتركة، ولا هم يتحدثون نفس اللغة، وليس لديهم تاريخ مشترك ولا ثقافة مشتركة. إن اليهودي الذي يعيش في الأرجنتين لديه قواسم مشتركة مع جيرانه الأرجنتينيين أكثر مما له مع أي يهودي آخر، يعيش في فرنسا أو في تركيا. إننا نرفض بشكل قاطع هذا ‘الحل’ الذي يقترحه الصهاينة للمسألة اليهودية.
هذا ما يجعل كل محاولة لحل "المسألة اليهودية" على أسس قومية، مخادعة وضارة. ينبغي أن تكون الإجابة على مشاكل معاداة السامية إجابة طبقية. إن النضال ضد معاداة السامية كان دائما مرتبطا بالصراع الطبقي في المجتمع. كان لا بد من حدوث الثورات البرجوازية من أجل إلغاء القوانين المعادية للسامية والقيود التي فرضت على اليهود في ظل الإقطاعية. وكان نضال البروليتاريا أيضا هو من وحد اليهود مع غير اليهود ضد مضطهدهم المشترك، وخاصة ضد العناصر الفاشيستية التي حاولت، دون جدوى، تقسيم الطبقة العاملة على أسس الدعاية القومية والمعادية للسامية. يجب ألا يتم إكراه اليهود على السفر إلى فلسطين أو تشجيعهم على ذلك، لأنهم هناك لن تحميهم سوى عصا الدولة الصهيونية المكسورة، التي تفرض على اليهود نظاما أكثر صرامة ومقتا من أي مكان آخر. ينبغي على الحركة العمالية أن تشجع اليهود على البقاء في بلدانهم الأصلية، وتوحيد قواهم بالعناصر التقدمية والبروليتارية هناك، والنضال سوية ضد جميع أشكال الرجعية.
ناضلوا ضد الصهيونية، تحركوا نحو الاشتراكية!
إن تركيز يهود العالم داخل دولة صغيرة عنصرية وعنيفة، على حساب السكان الأصليين، والمكروهة من طرف كل جيرانها، طريقة غريبة للنضال ضد معاداة السامية. إنها السبب الرئيسي لانتعاش معاداة السامية في وقت من المفترض أن تكون فيه هذه الظاهرة قد انقرضت منذ وقت بعيد. إن هؤلاء اليهود الذين يدعمون الصهيونية، سواء منهم من يعيشون داخل إسرائيل أو خارجها، إنما يدعمون في نهاية المطاف، وبغير قصد منهم، القوى المعادية للصهيونية التي تتغذى من هذا الوضع.
إن الاشتراكية هي الإجابة الوحيدة على معاداة السامية. ليست هناك طريقة للتملص من هذا الواقع. سوف يحاول المجتمع البرجوازي دائما تقسيم العمال، وتخديرهم بالأساطير حول الأمة ‘العظيمة’ و‘الخالدة’ و‘الموحدة’ التي لا يمكنها إلا أن تتصارع مع الأمم الأخرى، وليس ضد نفسها. وسيبقى هناك دائما هامش لمعاداة السامية في مثل هذه البيئة، وستؤدي الجرائم الصهيونية، التي يتم ربطها خطأ باليهود أجمعهم، إلى أن يصير ذلك الهامش أكبر فأكبر. لهذا السبب ينبغي علينا أن نحث كل شخص يعتبر نفسه يهوديا، على الوقوف ضد الصهيونية والانضمام إلى العناصر التقدمية والثورية الموجودة في مجتمعه. ليست هناك وسيلة أخرى إذا ما أردنا بناء عالم خال من العنصرية.
بعد أن نقول هذا، نؤكد أننا، نحن الاشتراكيون، نرى بأن اليهود الإسرائيليين يعيشون في فلسطين لأكثر من ستين سنة، وقد طوروا لغة مشتركة وثقافة مشتركة، ومن ثم فإننا نرفض الدعوات الرجعية (التي نجدها للأسف حتى بين صفوف اليسار) المطالبة إما بـ‘رميهم في البحر’ أو إجبارهم على العيش مواطنين من الدرجة الثانية في دولة فلسطينية عربية. إن كلا الشعبين: اليهودي والفلسطيني، لديهما الحق في الاستقلال القومي والثقافي واللغوي، لكن هذا ليس شيئا يمكن ضمانه من طرف الإمبرياليين و‘حل’ الدولتين الذي يدعون إليه (والذي سوف يعني عمليا دولة فلسطينية صغيرة وضعيفة ومقسمة تحت السيطرة الحديدية لإسرائيل). فقط دولة عمالية موحدة، لإسرائيل/ فلسطين، مع حق كلا الشعبين في الحكم الذاتي، مع حرية التنقل بينهما، والتي تشكل جزء من فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط، هي من يمكنها أن توفر لهذين الشعبين ما يصبوان إليه بحرارة.